فلسفة الموت عند سعيد النورسي
لقد شغلت الرغبة في تعرف حقيقة الموت أذهان العلماء والفلاسفة منذ القديم، فكانت لهم تصورات عديدة مستملاة من مذاهبهم ومواقفهم الفكرية فكان منهم من تمثل الموت تمثلاً مادياً فلم يوفيه أكثر من توقف للجسم عن أداء وظائفه الفسيولوجية لسبب طبيعي أو لسبب مفاجئ يخترم العمر.
وكان منهم آخرون تمثلوه تمثلاً روحيا يتم فيه فك الارتباط بين الروح والجسد ليكون ذلك مرحلة ضرورية للخلوص إلى" مرحلة جديدة تتجلى فيها الحياة تجلياً آخر أرقى وأشرف.
وقد أفضى بحث ظاهرة الموت الى بروز تيارين كبيرين:
- أحدهما التيار الأعتزالي والطبيعي.
- وثانيهما التيار السني.
على النقيض مما ذهب اليه المعتزلة والطبيعيون ، فإن أهل السنة قد كونوا لهم مذهباً مستقى من إفادة القرآن وتنصيصه على كون الموت مخلوقاً، أي كونه شيئاً وجودياً. وتعريفات هذا الفريق تلتقي عند هذا المعطى، ومن تلك التعريفات قولهم:
الموت صفة وجودية خلقت ضد الحياة.
أو هو صفة وجودية مضادة للحياة.
أو هو كيفية مخلوقة في الحي.
إلى غير ذلك من التعاريف التي تطفح بها كتب العقيدة، وهي تعاريف تشترك في اعتبار الموت وجودياً سواء كانت جوهراً أو عرضاً ، لكن الاشكال رغم هذه التعاريف لا يزول، ويظل العقل ينظر إلى الموت على أنه مجرد عدم ومجرد اضمحلال وتوقف، وهذه الأعراض لا يمكن أن تكون أشياء وجودية لأنه نقائض لأعراض أخرى وجودية ماثلة، وهذاما يفرض تلمس الجواب في تحليلات أخرى قادرة على تقريب المعنى القرآني للموت بعمق، واستبعاد التكلف والتمحل وهو الأمر الذي نجح فيه بديع الزمان سعيد النورسي، وهو يلامس بعبقرية نادرة وبعمق قليل النظير قضية كون الموت مخلوقاً رغم أن الظاهر يوحي بخلاف ذلك.
النورسي وفلسفة الموت:
لقد أوضحت أنه على كثرة ما تناول المتناولون قضية الموت محاولين تصورها ضمن حدود العطاء القرآني ، فإن المتتبع لا يجد من كل تلك الآراء شفاء لغليل ولا حلاً لإشكال، وانما يجد الموضوع منبهماً مظلماً في كثير من جوانبه ، وبذلك تظل الحاجة الى تحليل جديد قائمة.
لقد كان الإشكال قائماً ولا شك في أذهان بعض المشتغلين بمثل هذه القضايا الفكرية فوجه إلى النورسي سؤالاً في الموضوع فأجاب عنه بجوابه الذي أثبته في مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور(1) وصدر الإجابة بإيراد السؤال ونصه:
إنه يفهم من آيات القرآن الحكيم مثل قوله تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ان الموت أيضاً مخلوق وأنه نعمة كالحياة ، مع أن الموت في الظاهر انحلال وعدم وتفسخ وانطفاء الحياة وهادم اللذات، فكيف يكون مخلوقاً ونعمة؟(2).
وبهذا السؤال الذي لا أراه صادراً الا عن فكر مشغول بتعرف وجه الحق من هذا الإشكال، وهو سؤال محدد ينصب على فكرتين محددتين هما كون الموت نعمة وكونه أمراً وجودياً ، وهما فكرتان يصعب تمثلهما فضلا عن تقريبهما للغير والدفاع عنهما بقوة إقناعية،
فأما عن كون الموت نعمة ، فإن ذلك يتجلى في نظر النورسي في مظاهر أربعة(3):
اولها: الموت انقاذ للانسان من اعباء وظائف الحياة الدنيا ومن تكاليف المعيشة المثقلة. وهوباب وصال في الوقت نفسه مع تسعة وتسعين من الاحبة الاعزاء في عالم البرزخ، فهو اذن نعمة عظمى!
ثانيها: انه خروج من قضبان سجن الدنيا المظلم الضيق المضطرب، ودخول في رعاية المحبوب الباقي وفي كنف رحمته الواسعة، وهو تنعم بحياة فسيحة خالدة مستنيرة لا يزعجها خوف، ولا يكدرها حزن ولا همّ.
ثالثها: ان الشيخوخة وامثالها من الاسباب الداعية لجعل الحياة صعبة ومرهقة، تبيّن مدى كون الموت نعمة تفوق نعمة الحياة. فلو تصورت ان اجدادك مع ما هم عليه من احوال مؤلمة قابعون امامك حالياً مع والديك اللذين بلغا ارذل العمر، لفهمت مدى كون الحياة نقمة، والموت نعمة. بل يمكن ادراك مدى الرحمة في الموت ومدى الصعوبة في ادامة الحياة ايضاً بالتأمل في تلك الحشرات الجميلة العاشقة للازاهير اللطيفة، عند اشتداد وطأة البرد القارس في الشتاء عليها.
رابعها: كما ان النوم راحة للانسان ورحمة، ولا سيما للمبتلين والمرضى والجرحى، كذلك الموت ــ الذي هو اخو النوم ــ رحمة ونعمة عظمى للمبتلين ببلايا يائسة قد تدفعهم الى الانتحار.
أما الشق الثاني من السؤال وهو المتعلق ببيان كون الموت أمراً وجودياً
فقد قال عنه النورسي ما نصه: »ان الموت في حقيقته تسريح وانهاء لوظيفة الحياة الدنيا، وهو تبديل مكان وتحويل وجود، وهو دعوة الى الحياة الباقية الخالدة ومقدمة لها؛ اذ كما ان مجئ الحياة الى الدنيا هو بخلق وبتقدير إلهي، كذلك ذهابها من الدنيا هو ايضاً بخلق وتقدير وحكمة وتدبيرإلهي؛ لأن موت ابسط الأحياء ــ وهو النبات ــ يُظهر لنا نظاماً دقيقاً وابداعاً للخلق ما هو اعظم من الحياة نفسها وانظم منها، فموت الأثمار والبذور والحبوب الذي يبدو ظاهراً تفسخاً وتحللاً هو في الحقيقة عبارة عن عجن لتفاعلات كيمياوية متسلسلة في غاية الانتظام، وامتزاج لمقادير العناصر في غاية الدقة والميزان، وتركيب وتشكّل للذرات بعضها ببعض في غاية الحكمة والبصيرة، بحيث ان هذا الموت الذي لا يرى، وفيه هذا النظام الحكيم والدقة الرائعة، هو الذي يظهر بشكل حياة نامية للسنبل وللنبات الباسق المثمر. وهذا يعني ان موت البذرة هو مبدأ حياة النبات الجديدة، أزهاراً وأثماراً.. بل هو بمثابة عين حياته الجديدة؛فهذا الموت اذن مخلوق منتظم كالحياة..
وكذلك فان ما يحدث في معدة الانسان من موت لثمرات حية، أو غذاء حيواني، هو في حقيقته بداية ومنشأ لصعود ذلك الغذاء في اجزاء الحياة الانسانية الراقية. فذلك الموت اذن مخلوق اكثر انتظاماً من حياة تلك الاغذية.
فلئن كان موت النبات ــ وهو في ادنى طبقات الحياة ــ مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الانسان وهو في ارقى طبقات الحياة؟ فلا شك ان موته هذا سيثمر حياة دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموتها نباتاً رائعاً في الجمال والحكمة في (عالم الهواء).«.
لقد استطاع النورسي من خلال هذا النص أن يغوص بفكره الوقاد وبألمعيته النادرة خلال بواطن الأشياء ليستخلص منها تصوّراً منطقياً تستطيع العقول ان تدركه وتجاوب معه، وقد اختار أن يشخص وجودية الموت انطلاقاً من مظاهر مادية لا يخطؤها النظر.
فالموت في نظر النورسي بداية رحلة جديدة من الحياة تأتي بعد ان يسلم المرء الروح ليبدأ مرحلة حياتية أشرف وأسمى من تلك الحياة المرئية المألوفة.
والموت بهذا هو قنطرة العبور وممر الخلوص إلى الحياة الأشف ومصير الانسان في هذا أشبه ما يكون بمصير حبة القمح أو النواة التي تودع الأرض وتغمر بالماء فيؤدي ذلك إلى تحولات كميائية غيرعشوائية تخضع لقانون صارم في التحول والتعمير وهي مع ذلك تتبدي للناظرين مجرد حبة عفنة متفسخة، لكنها سرعان ما تنبثق عن فصيلة تحمل سنابل عديدة في كل سنبلة منها عشرات الحبات.
وهذا التجلي اليانع ليس في الحقيقة الا حياة جديدة للحبة الواحد الواهنة المتمزقة في أحشاء الأرض ، ولولا ذلك التفسخ والاضمحلال لماوجدت الحبة إلى هذه الحياة الأوفر طريقاً أو سبيلاً، وتفسخها الذي يرى اضمحلالاً وتحللاً إن هو في واقعة إلا إشراقة جديدة للحياة.
وإذا كان هذا الانتقال يتم بهذه الكيفية وبهذا الانضباط التام لقوانين كميائية صارمة، فمعنى ذلك أن هناك حركة قوية منضبطة يراها الناس اضمحلالاً وهي عمليات معقدة محكومة بسنة الله في الخلق، وحين تصير حبة القمح مآت الحبات، فإنها قد تصير غذاء للانسان فتخالط منه الدم والخلايا وتدخل في تركيبه وبنائه وتصير جزءاً من خلايا التفكير ومن الأعصاب فيه فتنتقل إذن لتحيا مجدّداً في صورة أشرف بكثير من صورتها الأولى وما كان لها ان تكون كذلك لولا ذلك الاضمحلال الظاهري الذي يرى في أعين الناس فناء وعدماً وهو في واقعه وجود جديد وتجل أبرز من الأول.
ان صورة استعادة الحبة للحياة ليست في واقعها إلا صورة مقربة لاستعادة الانسان حياته بعد أن يموت فينتقل إلى وجود ليس الوجود الأول شيئاً بالنسبة إليه ، ومفارقته الحياة الدنيا أمر ضروري ليسنبل حياة جديدة سالمة من كل منغصات الحياة الأولى.
وبهذا التصور البديع الرائع استطاع النورسي أن يبلغ الغاية من تقرير كون الموت أمراً وجودياً ما دام هذا الموت عبارة عن تفاعلات منضبطة منسقة ينتج عنها استعادة الانسان لوجوده مرة أخرى، وهذه التفاعلات ليست ولا شك إلا أمراً وجودياً عبّر عنه القرآن الكريم بقوله الذي خلق الموت.
إن تحليل النورسي ذو أهمية بالغة بالنسبة لدارسي العقيدة وللمفسرين على حد سواء، وأهميته تكمن في ملاحظ عدة: منها أنه استطاع أن يقرب بجلاء ودون تأويلات بعيدة وجودية الموت،وهذا أمر طالما عسر على كثير ممن تناولوا الموضوع.
وتكمن أهمية التحليل أيضاً في أنه استطاع ان يعطي صورة غير مرعبة عن الموت لأن الموت بهذا ليس فناء ولا اضمحلالاً ولا انسحاباً ، وانما هو مجرد تحول ونقلة إلى الأكمل والأشرف.
ولقد كان الخوف من الموت دائماً مرتبطاً بتصوره عدماً وفناء، فمن ثم كان الانسان أسير ذلك الخوف، يراه حرباً على الوجود الانساني وهدماً لكينونته فيكرهه ويتحاشى أسبابه حتى ولو كانت جهاداً من أجل الحق ودفاعاً عن العقيدة ومواجهة للباطل.
إن فلسفة الموت عند النورسي إعلان عن بقاء الانسان واستمراره واتصال حياته الأخرى بالأولى، وهي رفض لفلسفة العدم والإلغاء والتشاؤم التي أشاعتها الفلسفات المادية التي حصرت حياة الانسان في البعد الأول من رحلته وأهميته أن الموت نهايته ودماره فتأزم لذلك.
إن تحليل النورسي إلى جانب كل ما سبق مفيد كل الإفادة على أكثر من مستوى، فهو مفيد على المستوى العقدي لأنه ينصب على ظاهرة الموت التي هي عتبة اليوم الآخر، وهو جزء من الغيب الذي يؤمن به كل مؤمن .
كما أن تحليل النورسي مفيد على المستوى النفسي، لكونه يكسب المرء اطمئناناً وانسجاماً مع الذات وثقة بالحياة في بعديها الأول والثاني، كما أنه يهوّن من شأن الموت فلا يجعله ذلك الشبح المرعب الذي يفني الانسان ويدمره ، ومثل هذا الإحساس لا يكسب الانسان إلا شجاعة خاصة لمواجهة المشاق واقتحام الصعاب مادام الموت هو أقصى ما يراد بالانسان ليس في حقيقته إلا رحلة نحو حياة تقر النفس وتطمئن بها، لأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (العنكبوت /84).
(1) مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور للإمام بديع الزمان سعيد النورسي ترجمة :احسان الصالحي-دار سوزلر -استانبول . 1992
(2) مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور - ص 8.
(3) مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور ص 9 .
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعة همس الغلا.
لتقوم بارسال رسائل لهذه المجموعة ، قم بارسال بريد الكترونى الى
jarh5000@googlegroups.com
لإلغاء الاشتراك في هذه المجموعة، ابعث برسالة الكترونية الى
jarh5000-unsubscribe@googlegroups.com
لخيارات أكثر , الرجاء زيارة المجموعة على
http://groups.google.com.sa/group/jarh5000?hl=en
-----------------------
أثبت وجودك لا تقرأ وترحل شارك معنا ولو بأيميل واحد
لمن اراد التوقف عن استقبال ايميله من المجموعة
يرسل بريد الى الادارة jarh5000@hotmail.com
ويكتب يرجى التوقف عن ارسال رسائل البريد الإلكتروني من المجموعة.
وسيتم الغائه خلال 24 ساعة
--------------------------------
Who wants to stop receiving messages from the group
Send mail to Jarh5000@hotmail.com
.Please stop writing and sending e-mail messages from the group
Will be canceled within 24 hours
No comments:
Post a Comment